ادعاء باطل[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]يدَّعي بعض المتحاملين
على الإسلام والمسلمين أن المسلمين لا يعترفون بالمخالفين لهم في العقيدة، ولا
يقرُّون بوجود اليهود والنصارى وغيرهم كطوائف لها كينونة تكفل لها البقاء إلى جوار
المسلمين.
وأنا
أقول: إن هذا الادِّعاء ما هو إلا نوع من الإسقاط[1]المعروف لدى علماء النفس،
وهو اتهام الغير بما في النفس، أو كما قال العرب: «رمتني
بدائها وانسلت»[2].
مَن
الذي لا يعترف بمن؟!
راجعوا
قصة الإسلام منذ بدايته لتعرفوا مَن الذي لا يعترف بمن؟ ومَن الذي يُنكر مَن؟!
إننا
في هذه الكلمات سنعرض -إن شاء الله- لدراسة سريعة لأحداث السيرة النبوية؛ لنستشفَّ
منها الإجابة على هذه الأسئلة، وسيكون ذلك من خلال بيان:
اعتراف الرسول بغير المسلمين.هل يعترف غير المسلمين
بالمسلمين؟! اعتراف الرسول بغير المسلمينمنذ
الأيام الأولى لهذه الدعوة الإسلامية الكريمة، والقرآن الكريم يتنزل
على رسول الله يشرح له
قصص الأنبياء عليهم السلام-، الذين سبقوه، ولا يكتفي القرآن بذكر أخبارهم دون
تعليق، بل إنه على الدوام يعظِّم ويبجل من شأن كل الأنبياء، وبلا استثناء.
وقد
استمر هذا النهج الكريم في المدينة المنورة حتى بعد الصراعات التي دارت بين
المسلمين اليهود تارة، وبينهم وبين النصارى تارة أخرى، وما توقَّف القرآن عن
الثناء على أنبياء الله -عليهم السلام، وفي مقدمتهم موسى وعيسى -عليهما
السلام- أنبياء اليهود والنصارى..
القرآن المكي والاعتراف
باليهود والنصارىفهذا
هو القرآن المكي يتحدث عن موسى u -على سبيل المثال-
فيقول:
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا
وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
} [القصص: 14].
ويقول
أيضًا:
{اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي
وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ
} [الأعراف: 144]. ومثال
ذلك كثير جدًّا في القرآن الكريم.
والأمر
كذلك بالنسبة لعيسىu، فتجد القرآن المكي
يُمجِّد قصته في أكثر من موضع، فيذكر على سبيل المثال:
{قَالَ
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي
مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ
حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا
} [مريم: 30-33]
.ويقول
أيضًا:
{وَزَكَرِيَّا
وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ
} [الأنعام: 85].
القرآن المدني والاعتراف
باليهود والنصارىوعلى
هذا التكريم والتبجيل استمر الوضع في فترة المدينة، على ما
كان فيها من صراعات وخلافات مع اليهود والنصارى، وعلى ما حدث من تكذيبٍ مستمر
منهم.. إلا أن المديح الإلهي للأنبياء الكرام استمر دونما انقطاع..
فموسى وعيسى -عليهما
السلام- يذكرهما ربنا كاثنين من أُولي العزم من الرسل، فيقول سبحانه في حقهما:
{وَإِذْ
أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا
} [الأحزاب: 7].
فإذا
أخذنا في الاعتبار أن هذه السورة -وهي سورة الأحزاب- قد نزلت بعد خيانة يهود بني قريظة
للمسلمين، ومحاولتهم استئصال كافة المسلمين من المدينة، أدركنا
مدى التكريم الإلهي لموسى وعيسى عليهما
السلام -وهما من أنبياء بني إسرائيل- وأدركنا أيضًا مدى الأمانة التي اتصف بها
الرسول ؛ إذ ينقل
تكريم الله لهؤلاء الأنبياء العظام على رغم خيانة أقوامهم وأتباعهم.
الأنبياء في القرآن الكريمولم
يكن هذا الاحتفاء والاحترام لهذين الرسوليْن العظيمين أمرًا عرضيًّا عابرًا في
القرآن الكريم، بل كان متكررًا بشكل لافت للنظر..
فعلى
الرغم من ورود لفظ «محمد» أربع مرات فقط، ولفظ «أحمد» مرة واحدة
فقط، نجد أن لفظ «عيسى u» قد جاء
خمسًا وعشرين مرة، ولفظ «المسيح» إحدى عشرة
مرة، بمجموع ست وثلاثين مرة!! بينما تصدر موسى u
قائمة
الأنبياء الذين تم ذكرهم في القرآن الكريم، حيث ذُكر مائة وأربعين مرة!!
وبالنظر
إلى عدد المرات التي ذُكر فيها كل نبي في القرآن، تدرك مدى الحفاوة التي زُرعت في
قلوب المسلمين لهم.
والحق
إنني قد فوجئت عندما قمتُ بعملية إحصاء لأسماء الأنبياء في القرآن، كما وجدتُ لها
بعض الدلالات اللطيفة؛ فأكثر الأنبياء ذكرًا في القرآن هم موسى ثم إبراهيم ثم نوح ثم عيسى عليهم
جميعًا أفضل الصلاة والتسليم، وهم جميعًا من أولي العزم من الرسل. ولا شك أن في
هذا تعظيمًا وتكريمًا لهؤلاء الرسل خاصةً، ولكن لم يأتِ ذكر رسولنا محمد -كما أشرنا قبل ذلك-
إلا خمس مرات، بل إننا نرى في هذا الإحصاء أن سبعة عشر نبيًّا قد ورد ذكرهم أكثر
من ذكر رسول الله ؛ مما يدل
دلالة قاطعة على أن الإسلام يجلُّ كل الرسل والأنبياء، كما يجزم هذا الإحصاء بأن
القرآن ليس من تأليف رسول الله -كما
يدَّعِي كثير من الغربيين- وإلا كان همُّه أن يُمجِّدَ نفسه لا غيره.
ونتساءل:
أبَعْد كل هذا الذكر والتعظيم يقال: إن المسلمين لا يعترفون بغيرهم؟!!
مَن
مِن أهل الأرض يعترف بنا كما نعترف نحن بغيرنا؟!
الإيمان بجميع الأنبياءوعلى
الرغم من قناعتنا أن الرسول هو أفضل
البشر وسيد الخلق، إلا أن القرآن الكريم يأمرنا بالإيمان بجميع الأنبياء دون تفرقة
بينهم، فيقول الله يصف الإيمان الأمثل
الذي يجب أن تتحلى به أمة الإسلام: {قُولُوا
آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى
وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
«هذا هو
الإسلام في سعته وشموله لكل الرسالات، وفي ولائه لكافة الرسل، وفي توحيده لدين
الله كله، ورَجْعِهِ جميع الرسالات إلى أصلها الواحد، والإيمان بها جملة كما
أرادها الله لعباده»[3].
يقول
ابن كثير -رحمه
الله- في التعليق على هذه الكلمة الجامعة
{لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
}: «يعني: بل
نؤمن بجميعهم؛ فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أُرسل، وبكل كتاب أُنزل، لا
يكفرون بشيء من ذلك، بل هم يصدقون بما أُنزل من عند الله، وبكل نبي بعثه الله»[4].
بل
إن القرآن يشدد كثيرًا على من يفرق بين الأنبياء، قال تعالى:
{إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ
اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
} [النساء: 150، 151].
هذه
هي الخلفية التي كان يضعها رسول الله في ذهنه عند الحديث عن الأنبياء والمرسلين.
رسول الله والاعتراف باليهودكان
رسول الله يدرك أن
بقاء اليهود والنصارى إلى يوم القيامة أمر مُسَلَّم به، وقد أخبر بذلك في روايات
عديدة غزيرة([5])..
وإن كان وجودهم من الأمور المقطوع بها، ومن المسلَّمات على هذا النحو، فلا بُدَّ
-إذًا- من الاعتراف بهم والتعايش معهم، والبحث عن أفضل الوسائل والطرق للتعامل
والتفاعل مع وجودهم. ومن ثَمَّ لم يكن الثناء على بعضهم أو الاعتراف بوجودهم مجرد
ترف فكري، أو تجميل سياسي للواقع الذي يعيشه المسلمون، إنما أُسقطت هذه الكلمات
والأفكار على أرض الواقع، فأفرزت مواقفَ إيجابية كثيرة، بل وتشريعات في غاية
الأهمية، كان لها أكبر الأثر في تسهيل مهمة التعايش بين الأديان والثقافات
المختلفة داخل المجتمع الواحد.
ولذلك
نرى أن الرسول قَبِل
-ببساطة- فكرة التعايش مع اليهود من أول يوم دخل فيه المدينة المنورة،
بل قام بعقد معاهدات مهمة معهم، كما سنفرد لذلك كتابًا مستقلاًّ إن شاء الله
تعالى.
ولم
يشأ لهذه المعاهدات أن تنقضي أو تُلغى أبدًا، وإنما كان النقض والغدر يأتي دائمًا
من قبل اليهود، وقد ظل النبيُّ محافظًا
على مبدأ التعايش السلمي والاعتراف بالآخرين، ما دام لم يحدث منهم اعتداء ظالم أو
تهديد خطير، بل إنه كان يتجاوز كثيرًا عن تعديات غير مقبولة من أجل أن تنعم
المدينة بالاستقرار.
ولم
يُغيِّر الرسول هذا النهج
إلى آخر حياته، حتى إنه قام بعمل قد يستغربه الكثيرون، وهو أنه اشْتَرَى طَعَامًا
مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ[6]!!
ووجه
الاستغراب أن الصحابة الأغنياء كانوا كُثُر في المدينة المنورة،
ولم يكن عندهم أغلى من رسول الله ، فكان من
الميسور أن يُهدَى إليه الطعام، أو على الأقل أن يَقترض منهم، أو يرهن درعه عند
أحدهم، ولكن الواضح من الموقف أنه فعل ذلك
لإثبات جوازه للمسلمين، ولتوجيه المسلمين إلى جعل العلاقة بينهم وبين اليهود طبيعية،
ما داموا يحترمون جوار المسلمين ولا يعتدون على حرماتهم، ولو وصل الحد إلى رهن
الدرع، وهو شيء عسكري مهم كما هو معلوم، ولكنه كان لإثبات حسن النوايا إلى أكبر
درجة.
رسول الله والاعتراف بالنصارىوكما
تعامل رسول الله مع اليهود
فعل ذلك أيضًا مع النصارى، وقام بعقد المعاهدات معهم أكثر من مرة واعترف بوجودهم
مع اختلافه معهم في العقيدة في أكثر من جزئية، ومنها جزئيات خطيرة لا تحتمل إلا
الشرك الصريح بالله، ومع ذلك لم يُكْرِههُم على تغيير دينهم، على الرغم من خوفه
على مصيرهم. يقول تعالى مخاطبًا النبيَّ :
{أَفَأَنْتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
} [يونس: 99]؟!
إن
المساحة المتاحة فقط هي مساحة الدعوة بالتي هي أحسن، ومساحة الشرح الجلي والتوضيح
المبين، ثم بعد ذلك يُترك الأمر تمامًا للإنسان ليختار ما يشاء، قال تعالى:
{فَمَنْ
شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ
} [الكهف: 29]. ومن هذا
المنطلق قَبِل رسول الله أن يَبقى
اليهود على يهوديتهم، وأن يَبقى النصارى على نصرانيتهم، وأن يستمر التعاملُ بصورةٍ
سِلميَّةٍ طيبةٍ بين الطوائف كلها.
إن
المبدأ العام واضح، وهو أنه
{لَا
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ
} [البقرة: 256] وأن الذي يُسلم
دون رغبة حقيقية لا ينفع نفسه ولا مجتمعه، فلا معنى -إذًا- لقبول مسلم ظاهريًّا وهو
يبطن الكفر في داخله، ولا معنى أيضًا لاستمرار الصراع والتنافر، فلتكن الحياة الطبيعية
الهادئة مع الطوائف غير المسلمة، حتى يأتي يوم يحكم فيه الله بين عباده فيما
كانوا فيه يختلفون.. يقول سبحانه:
{إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ
} [الجاثية: 17].
بل
إن الرسول قَبِلَ في
شطرٍ كبير من حياته أن يتعايش مع المشركين، ونزلت الآيات تترى على هذا النحو في مكة المكرمة..
قال تعالى:
{لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
} [الكافرون: 6].
وقال
أيضًا:
{خُذِ
الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
} [الأعراف: 199]. وقال
سبحانه:
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
} [الحجر: 94].
لقد
كان هذا نهجه في مكة، ولكنهم
حاربوه واضطهدوه وأخرجوا أصحابه، وطاردوهم هنا وهناك، وضيَّقوا عليهم كل سبيل، فلم
يكن بدٌّ من القتال والمقاومة.
[1] الإسقاط
هو حيلة
دفاعية ينسب فيها الفرد عيوبه ورغباته المحرمة والعدوانية أو الجنسية
للناس؛ حتى يبرئ نفسه ويبعد الشبهات عنها, فالكاذب يتهم معظم الناس بالكذب، وهكذا.
[2] قال
المفضَّل: سبب هذا المثل أن سَعْد بن زَيْد مَنَاة كان تزوج رُهْمَ بنت
الخزرج بن تَيْم الله، وكانت من أجمل النساء فولدت له مالك بن سعد،
وكانت ضرائرها يكثرن من سبِّها، فقالت لها أمها: إذا سابَبْنَكِ فابدئيهن، فسابتها
بعد ذلك امرأة من ضرائرها، فسبتها رُهْم، فقالت ضرتها: رمَتْنِي بدائها
وانْسَلَّتْ. انظر: أبو الفضل الميداني: مجمع الأمثال 1/102.
[3] سيد قطب:
في ظلال القرآن 1/423.
[4] ابن كثير:
تفسير القرآن العظيم 1/503.
[5] انظر
مثلاً: البخاري: حديث رقم 2768، ورقم 2109، ومسلم: حديث رقم 2944، ورقم 155.
[6] البخاري
عن السيدة عائشة ل: كتاب الرهن، باب من رهن درعه 2374، ومسلم: كتاب المساقاة، باب
الرهن وجوازه في الحضر والسفر 1603